فصل: (فرع: بيع التمر بالتمر قبل نزع نواه)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: بيع الرطب على رؤوس النخل بالرطب على الأرض]

وإن باع رطبا على رؤوس النخل، برطب على الأرض، أو برطب على رؤوس النخل.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجوز، وهو قول ابن خيران؛ لما روى زيد بن ثابت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرية بالتمر والرطب». ولم يفرق، وروي: (بالتمر أو الرطب».
والثاني ـ حكاه الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق ـ: إن كان على رؤوس النخل.. جاز، وإن كان أحدهما على الأرض.. لم يجز؛ لأنهما إذا كانا على رؤوس النخل، فربما يريد أحدهما نوعًا من الرطب غير النوع الذي عنده، فيأكله أيًّامًا من نخله. وإذا كان أحدهما على الأرض.. لا يمكنه أن يأكله أيامًا؛ لأن أكثر ما يبقى رطبا يومًا أو يومين.
وأما صاحب "المهذب"، وابن الصباغ: فحكيا قول أبي إسحاق: إن كانا نوعًا واحدًا.. لم يجز. وإن كانا نوعين.. جاز من غير تفصيل. ولعلهما أرادا إذا كان النوعان على رؤوس النخل.
والوجه الثالث ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أنه لا يجوز بحال؛ لما روي في حديث سهل بن أبي حثمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع تمر النخل بتمر النخل، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا».
فيجوز بيعها بالتمر خاصة، ولأنه إذا باع الرطب بالتمر.. دخل الخرص في أحد العوضين، فيقل الغرر، وأما إذا باع الرطب بالرطب: دخل الخرص في العوضين، فيكثر الغرر.

.[فرع: بيع المحاقلة والمزابنة]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المحاقلة والمزابنة». واختلف في تأويله:
فذهب الشافعي إلى: (أن المحاقلة: أن يبيع الرجل الحنطة في سنبلها بحنطة موضوعة على الأرض. والمزابنة: هو أن يبيع الرجل التمر على رؤوس النخل بما زاد على خمسة أوسق من التمر على الأرض).
وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أن المحاقلة: استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها. والمزابنة: هو أن يقول الرجل لصاحبه: كم في صبرتك هذه؟ فيقول: أقل من خمسين قفيزًا، فيقول الآخر: بل فيها أكثر من خمسين قفيزًا فيقال لمالكها: اكتل الآن، فإن نقصت عن خمسين قفيزًا.. فعلي تمامها، وإن زادت على الخمسين.. فلي الفضل).
دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المحاقلة والمزابنة».
فـ (المحاقلة): أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من حنطة. و(المزابنة): أن يبيع التمر على رؤوس النخل بمائة فرق تمرًا. وهذا أشبه باللغة.
قال الأزهري: الحقل القراح: المزروع، والحواقل: المزارع. وأما منفعة الأرض: فليست بحقل. والمزابنة: مأخوذة من المدافعة. فكأن المتبايعين إذا وقعا فيها.. تبايعا على غبن، وأراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن إمضاءه، فتزابنا، أي: تدافعا، واختصما، وإنما تعلق ذلك بالثمرة؛ لأنها مجهولة يجري فيها التغابن.
وما ذكره مالك في الصبرة.. فليس بعقد بيع يتناوله النهي، وإنما هو قمار ومخاطرة.
إذا ثبت ما ذكرناه: فلا يجوز بيع العرايا فيما زاد على خمسة أوسق بعقد واحد. وهل يصح بيع العرايا في خمسة أوسق؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار المزني؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا: الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربعة».
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص من بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق». وشك داود بن الحصين في الخمسة، فبقي على الحظر.
ولأن الخمسة الأوسق في حكم ما زاد، بدليل: أن الزكاة تجب فيها، كما تجب فيما زاد عليها.
والقول الثاني: يجوز؛ لما روى سهل بن أبي حثمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في العرايا». وهذا يتناول الخمسة الأوسق وما زاد، إلا أن الدليل قد دل على أنه لا يصح فيما زاد على خمسة أوسق، فبقي في الخمسة على عموم الخبر.
فإذا قلنا بهذا: قال صاحب " التلخيص ": لو اشترى رجلٌ عشرة أوسق من رجلين بعقد.. لم يجز. ولو باع رجلٌ من رجلين عشرة أوسق بعقد.. جاز.
فمن أصحابنا من سلم له هذا التفصيل، وفرق بينهما، وهو أنه: إذا اشترى من رجلين عشرة أوسق بعقد.. فقد دخل في ملكه جملة واحدة بعقد واحد عشرة أوسق، فلم يجز. وإذا باع.. لم يخرج من ملكه إلى كل واحد منهما إلا خمسة أوسق، فصار كالمفرد.
ومنهم من لم يسلم له هذا، وقال: يصح في الجميع، وهو الأصح؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين، بحكم العقدين من أي جانب كان. وقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ ما يوافق هذا الوجه، فقالا: إذا باع رجل تسعة أوسق على رؤوس النخل من رجلين بتسعة أوسق تمرًا في عقد واحد.. جاز.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يجوز).
دليلنا: أن بيعه من اثنين يجري مجرى العقدين المنفردين. وكذلك إن باع رجلان تسعة أوسق، من رجل بتسعة أوسق بعقد.. صح؛ لما ذكرناه. وإن باع رجل عشرة أوسق من رجلين.. فعلى القولين، فيمن باع خمسة أوسق بعقد من رجل.
وإن باع رجل تسعة عشر وسقا من أربعة رجال بمثلها في عقد.. صح؛ لأنها في حكم أربعة عقود. وهكذا: لو باع اثنان من اثنين تسعة عشر وسقا بمثلها بعقد.. صحّ؛ لأنها في حكم أربعة عقود. وإن باع رجل عشرين وسقا بمثلها من أربعة رجال بعقد واحد.. ففيه قولان، كما لو باع رجل رجلاً كلّ خمسة أوسق.
وإن باع رجلان عشرة أوسق من رجل بعقد.. فعلى القولين.
وإن باع ثلاثة رجال عشرين وسقا بمثلها من رجلين بعقد، أو باع خمسة رجال عشرين وسقا بمثلها من رجلين بعقد.. فعلى قياس ما ذكره الشيخ أبو حامد: أنه يصح، قولاً واحدًا؛ لأن بيع الثلاثة من اثنين بعقد بحكم ستة عقود، فيصير كما لو باع كل واحد ثلاثة أوسق وثلثا بعقد، وبيع الخمسة من اثنين بحكم عشرة عقود، فيصير كما لو باع كل واحد وسقين بعقد.

.[فرع: بيع الحائط كله عرية]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويبيع صاحب الحائط لكل من رخص له، وإن أتى على جميع حائطه).
وجملة ذلك: أنه يجوز لصاحب الحائط أن يبيع حائطه كله على وجه العرية، فيبيع من رجل ما دون خمسة أوسق بعقد، أو خمسة أوسق إذا قلنا: يجوز، ثم يبيع صفقة أخرى كذلك منه، أو من غيره حتى يأتي على جميع الحائط.
قال القفال: وهذا إذا لم يجب فيه الزكاة، فأما إذا وجبت فيه الزكاة: فقد مضى الكلام فيه في الزكاة.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يجوز للرجل أن يبيع أكثر من عرية واحدة).
دليلنا: عموم حديث سهل بن أبي حثمة، ولم يفرق؛ ولأن كل بيع جاز بين المتبايعين مرة.. جاز أن يتكرر، كسائر البيوع.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى المزابنة، وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها.
فالجواب: أن المزابنة هو العقد الواحد على ما زاد على خمسة أوسق، فإذا لم يوجد ذلك.. لم يكن محرمًا، وإن كان بتفريقه يحصل به ذلك، كما أنه لا يجوز بيع درهم بدرهمين، ومعلوم أنه لو باع درهمًا بذهب، ثم اشترى بالذهب درهمين.. جاز ذلك.

.[فرع: العرية في غير الرطب]

وما جاز من العرايا في الرطب على النخل، بالتمر على الأرض.. جاز في العنب على الشجر، بالزبيب على الأرض.
وقال الليث: (لا تجوز العرايا إلا في النخل خاصة).
دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخَّصَ في العرايا». وهو بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب.
ولأن العنب ثمرة تجب فيها الزكاة، ويُخرَصُ كما يُخرَصُ التمرُ، فجاز فيه العرايا، كالتمر. وأمّا ما عداهما من الثمار، كالفرسك والمشمش والإنجاص.. فهل يجوز بيع رطبها على الشجر باليابس منه فيما دون خمسة أوسق؟ فيه طريقان:
أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنها على قولين:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن هذه الثمار لا يجب فيها الزكاة، ولا يمكن فيها الخرص؛ لاستتارها بالأوراق.
والثاني: يجوز؛ لأن الحاجة تدعو إلى الرطب منها، كالرطب والعنب.
والطريق الثاني ـ حكاه صاحب " المعتمد " ـ: أنه لا يجوز، قولاً واحدًا؛ لما ذكرناه للقول الأول.

.[فرع: بيع التمر بالتمر قبل نزع نواه]

يجوز بيع التمر بالتمر قبل نزع النوى مثلا بمثل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمر بالتمر». ولم يفرق؛ ولأن في بقاء النوى في التمر مصلحة للتمر.
وإن باع منه ما نزع نواه، بما لم ينزع نواه.. لم يصح البيع؛ لأنه باع ما هو على هيئة الادخار ـ وهو: ما لم ينزع نواه ـ بما ليس على هيئة الادخار ـ وهو: ما نُزع نواه ـ على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار، فلم يصح، كبيع الرطب بالتمر.
فقولنا: (على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار) احترازٌ من بيع الرطب بالتمر في العرايا؛ لأنهما لا يتفاضلان في حال الادخار.
وإن باع منه ما نزع نواه، بعضه ببعض.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لما روى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح كيلا بكيل». ولم يفرق بين أن ينزع نواه، أو لم ينزع.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه إذا نزع عنه النوى.. فقد زال عن هيئة الادخار، فلم يصح بيع بعضه ببعض، كالدقيق بالدقيق؛ ولأنه إذا نزع نواه.. تجافى في المكيال، فلا يتحقق التساوي فيه، فلم يصح.

.[مسألة: بيع المطبوخ بالنِّيء]

قال الشافعي: (ولا يجوز بيع شيء من الجنس الواحد مطبوخًا منه بنِيء بحال إذا كان يدَّخر مطبوخًا). وهذا كما قال: قد ذكرنا: أن عصير العنب والسفرجل والتفاح والرمان والكُمَّثْرى أجناسٌ، على المشهور من المذهب، فإذا بيع بعض الجنس منها ببعض.. نظرت:
فإن كان باع النِّيء منها بالنِّيء منها.. جاز فيهما متماثلا، ولا يجوز متفاضلاً. وإن كان مطبوخًا.. فلا يصح بيعه بالنِّيء منها. ولا يصح بيع المطبوخ منها بالمطبوخ؛ لأن النار دخلت فيه، فيؤدي إلى الجهل بالتماثل.
فإن قيل: أليس التمر تجففه الشمس، ويختلف تجفيفها فيه؟ فكيف جاز بيع بعضه ببعض؟
قلنا: لأن تلك حالة ادّخار التمر. والعصير حالة ادخاره قبل طبخه.
وإن أراد أن يبيع جنسًا من الأعصار بجنس آخر.. جاز، سواءٌ كانا مطبوخين أو نيئين، أو أحدهما نِيئًا، والآخر مطبوخًا؛ لأنها أجناس، على المشهور من المذهب، فلا يعتبر فيها التساوي.

.[فرع: بيع اللحم باللحم]

ولا يجوز بيع اللحم النِّيء بالمطبوخ، ولا بيع المطبوخ بالمطبوخ.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع النِّيء بالمطبوخ متماثلاً، ولا يجوز بيعه متفاضلاً).
وقال مالكٌ: (يجوز متماثلاً، ومتفاضلاً).
دليلُنا: أنه جنس فيه ربا، فلم يجز بيع نيئه بمطبوخه، ولا بيع مطبوخه بمطبوخه، كالتمر بالدبس، والحنطة بسويق الدقيق.

.[فرع: بيع العسل بالعسل]

وأما عسل النحل المصفّى بالشمس: فيجوز بيع بعضه ببعض؛ لأن الشمس لا تعقد أجزاءه، وإنما تذيبه، وتميّزه من الشمع. وإن صُفي بالنار.. فهل يجوز بيع بعضه ببعض؟ حكى صاحب "المهذب" و "الشامل" فيه وجهين:
أحدُهما: لا يجوز؛ لأنَّ النار دخلت فيه، وربما عقدت أجزاء بعضه أكثر من بعض.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأن نار التصفية ليِّنةٌ، لا تعقدُ الأجزاء، وإنما تميزُهُ من الشمع، فهو كما لو صُفي بالشمس.
وقال الشيخ أبو حامد في "التعليق": إن أغلاه بالنار غليانًا يسيرًا.. جاز بيع بعضه ببعض، وإن كان غليانًا كثيرًا.. لم يجز بيع بعضه ببعض.
وهل يجوز بيع السكر بعضه ببعض؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن النار تدخل فيه لعقد الأجزاء ولنقصانه.. فلم يجز بيع بعضه ببعض؛ كالدبس.
والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ لأن النار تدخله لتصفيته من القصب، لا لعقد الأجزاء، فإذا باع العسل بالعسل، والسكر بالسكر.. فكيف يباعان؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنهما يباعان كيلاً؛ لأن أصلهما الكيل.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنهما يباعان وزنًا)؛ لأنه أحصر، ولأن السكر يتجافى في المكيال، وإن دق ليكال.. زال عن هيئة الادخار. وهكذا الوجهان في السمن.

.[مسألة: بيع الدقيق بالحنطة]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز بيع الدقيق بالحنطة). وهذا كما قال. واختلف أهل العلم في بيع الحنطة بدقيقها:
فذهب الشافعي إلى: (أنه لا يجوز بيع الحنطة بدقيقها، لا متماثلاً، ولا متفاضلاً، لا كيلاً، ولا وزنًا). وبه قال حمَّاد بن أبي سليمان، والثوري، وأبو حنيفة.
وذهب مالك، وابن شبرمة إلى: (أنه يجوز بيع الحنطة بدقيقها متماثلاً، كيلا بكيل).
وذهب الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق إلى: (أن ذلك يجوز وزنًا بوزن).
وحكي عن أبي ثور: أنه قال: (يجوز بيع الحنطة بدقيقها متفاضلاً).
وحكي عن الكرابيسيّ: أنه قال: قال أبو عبد الله: (يجوز بيع الحنطة بدقيقها كيلا بكيل). فجعل أبو الطيب بن سلمة هذا قولا آخر للشافعي. وقال سائر أصحابنا: ليس ذلك بقول للشافعي. ولعل الكرابيسي أراد بذلك مالكًا أو أحمد.
ودليلنا: أنه جنس فيه الربا، فلم يجز أن يباع منه ما زال عن هيئة الادخار، بصنعة آدمي بأصله الذي هو على هيئة الادخار، كبيع التمر بنخله.
فقولنا: (بصنعة آدمي) احترازٌ من بيع التمر المسوِّس، بغير المُسوِّس، فإن ذلك يجوز، ولأن الدقيق هو الحنطة، وإنما تفرّقت أجزاؤها بالطحن، فإذا بيع بالحنطة كيلا.. أدى إلى التفاضل في حال الادخار؛ لأن الدقيق يتجافى في المكيال، والحنطة ينضم بعضها إلى بعض؛ لأنها شديدة، فإذا طحنت تفرقت، فلو جمع بعضه إلى بعض.. لم يجتمع كخلقة الأصل، فإذا بيع كيلاً.. أدى إلى التفاضل في حال الادخار.

.[فرع: بيع مطحون الجنس الواحد]

وأما بيع دقيق الجنس بعضه ببعض: فالمنصوص: (أنه لا يجوز).
وروى المزني عنه في (المنثور): (أنه يجوز). وهو رواية البويطي أيضًا، وبه قال أحمد، ومالك.
وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الناعم بالناعم، والخشن، بالخشن، ولا يجوز بيع الخشن بالناعم).
دليلُنا: أن الدقيق هو نفس الطعام، وإنما تفرّقت أجزاؤه بالطحن، وقد لا يتفقان في النعومة والخشونة، فيأخذ الخشن من المكيال أكثر مما يأخذه الناعم، فيؤدّي إلى التفاضل حال الادخار، فلم يجز.

.[فرع: بيع الحنطة بالسويق]

ولا يجوز بيع الحنطة بسويقها؛ لما ذكرناه في الدقيق؛ لأن السويق أسوأ حالاً من الدقيق؛ لأن السويق قد دخله الماء والنار والطحن.
ولا يجوز بيع السويق بالسويق. وقال أبو حنيفة فيه: (يجوز). كما يجوز عنده بيع الدقيق بالدقيق، وقد مضى الدليل عليه في بيع الدقيق بالدقيق.
والسويق أسوأُ حالاً من الدقيق على ما ذكرناه.
ولا يجوز بيع الدقيق بالسويق من جنسه، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة. وروى عنه أبو يوسف روايةً شاذّة: (أنه يجوز).
وقال أبو يوسف، ومالك: (يجوز متماثلاً ومتفاضلاً؛ لأنهما جنسان).
دليلُنا: ما ذكرناه في الدقيق بالدقيق، والسويق أسوأ حالاً من الدقيق على ما بيّناه.
ولا يجوز بيع خبز الحنطة بالحنطة، ولا بدقيقها، وبه قال أحمد.
وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز متفاضلاً. وهو قياس قول أبي ثور في الحنطة بالدقيق.
دليلُنا: أنه فرعٌ لأصل يحرم فيه الربا، فلم يجز بيعه به، كالدقيق بالحنطة.
وأما بيع الخبز بمثله من جنسه: فإن كانا رطبين أو أحدهما.. لم يجز.
وقال محمد بن الحسن: يجوز بيعهما متماثلين.
دليلُنا: أنه جنس في الربا، يباع بعضه ببعض، على وجه يتفاضلان في حال الكمال والادخار.. فلم يجز، كبيع الخبز بالحنطة. وأما إذا كانا يابسين مدْقوقين يمكن كيلُهما.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد خالطهما الماء والملح والنار، وقد يكثر في أحدهما دون الآخر.
والثاني: أنه يجوز؛ لأن ذلك حالة كماله وادخاره، فجاز بيع بعضه ببعض، كالحنطة.

.[مسألة: بيع الشيء بما يستخلص منه]

ولا يجوز بيع السمسم بالشيرج، ولا بيع العنب بعصيره، ولا بخل الخمر، ولا بخل الزبيب؛ لأن فيهما مثل ما يباعان به، وذلك يؤدّي إلى التفاضل. ويجوز بيع خل الخمر بخل الخمر. ويجوز بيع خل الخمر بعصير العنب متساويًّا؛ لأن ذلك حالةُ ادّخاره، فهو كبيع الزبيب بالزبيب. ولا يجوز بيع خل الخمر بخل الزبيب؛ لأن أصلهما واحد، وفي خل الزبيب ماء، وذلك يمنع تماثلهما. ولا يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب، ولا بيع خل التمر بخل التمر؛ لأنّا إن قلنا: إن في الماء ربا.. لم يجز؛ لمعنيين، وهما: الجهل بتماثل الماءين، والجهل بتماثل الخلين. وإن قلنا: لا ربا في الماء.. لم يجز؛ للجهل بتماثل الخلين. وهل يجوز بيع خل التمر بخل الزبيب؟
إن قلنا: إن في الماء ربا.. لم يجز؛ للجهل بتماثل الماءين.
وإن قلنا: لا ربا في الماء.. جاز بيع أحدهما بالآخر متماثلاً ومتفاضلاً؛ لأنهما جنسان، على المشهور من المذهب، وكذلك يجوز بيع خل الخمر وعصير العنب، بخل التمر متفاضلا ومتماثلاً؛ لأنهما جنسان، على المشهور من المذهب.

.[فرع: بيع المدقوق بالمدقوق]

قال المسعودي [في "الإبانة" ق\220] ولا يجوز بيع السمسم المدقوق بالسمسم المدقوق، كما لا يجوز بيع الدقيق بالدقيق. وأما بيع الشيرج بكسبه - وهو: عصارة السمسم - ففيه وجهان:
قال المسعودي [في "الإبانة" ق\220] يجوز؛ لأنهما جنسان.
وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه لا يخلو من أن يبقى فيه شيء من الشيرج.

.[مسألة: بيع اللبن بلبن في الضرع]

ولا يجوز بيع شاةٍ في ضرعها لبن بلبن الغنم؛ لأنه بيع لبن وغنم، بلبن؛
لأن اللَّبن في الضرع يقابله قسط من الثمن، ولهذا إذا اشترى شاةً مصراةً ولم يعلم بها، ثم علم بها، فردّها.. وجب عليه بدل اللبن.
وإن باع شاةً في ضرعها لبنٌ، بلبن بقر أو إبل، فإن قلنا: إن الألبان جنس واحد.. لم يَجُزْ، لما ذكرناه.
وإن قلنا: إن الألبان أجناس.. جاز البيع، ويشترط التقابض فيهما قبل التفرق؛ لأنهما مطعومان.
وإن باع شاةً مذبوحةً في ضرعها لبنٌ، بلبن البقر، فإن كانت غير مسلوخة.. لم يصح البيع؛ لأن بيعها قبل سلخها لا يجوز. وإن كانت قد سلخت، فإن قلنا: إن الألبان جنس.. لم يجز. وإن قلنا: إن الألبان أجناس.. صح البيع، ويشترط قبضهما قبل التفرق.
وإن كان لا لبن في ضرع الشاة المذبوحة، فباعها بلبن قبل السلخ.. لم يجز؛ للجهل باللحم، وإن كان بعد السلخ.. صح البيع؛ لأنهما جنسان، ويشترط القبض فيهما قبل التفرق؛ لأنهما مطعومان. وإن كان في ضرع الشاة لبن، فحلبها، ثم باعها بلبن شاةٍ.. قال الشافعي: (صح البيع ولا اعتبار باللبن اليسير الذي لا يحلب في العادة).